الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدر الأقدار، مصرف الأمور، مكوِّر الليل على النهار، تبصرةً لأولي القلوب والأبصار، الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه، فأدخله في جملة الأخيار، ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار؛ وبصَّر من أحبه للحقائق فزهدهم في هذه الدار، فاجتهدوا في مرضاته، والتأهب لدار القرار، واجتناب ما يُسخطه والحذر من عذاب النار.
أحمده أبلغ حمد على جميع نعمه، وأسأله المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارًا بواحدنيته، واعترافًا بما يجب على الخلق كافة من الإذعان لربوبيته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه المصطفى من خليقته، وأكرم الأولين والآخرين من بريته، أكرم الخلق، وأزكاهم، وأكملهم، وأعرفهم بالله تعالى وأخشاهم، وأعلمهم به وأتقاهم، أشدهم اجتهادًا وعبادة، وخشية، وزهادة، وأعظمهم خلقًا، وأبلغهم بالمؤمنين تلطفًا ورفقًا؛
صلوات الله وسلامه عليه وعلى النبيين، وآل كلٍ وصحابتهم [أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون].
أما بعد؛ فإن الدنيا دار نفاد لا دار إخلاد، ودار عبور، لا دار حبور، ودار فناء، لا دار بقاء، ودار انصرام، لا دار دوام؛ وقد تطابق على ما ذكرته، دلالات قواطع النقول، وصائح العقول، وهذا مما استوى في العلم به الخواصُّ والعوامُّ، والأغنياء، والطعام، وقضى به الحسُّ والعيان؛ حتى لم يقبل لوضوحه [إلى] زيادة في العرفان:
وليس يصح في الأسماع شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل ولما كانت الدنيا بالحال التي ذكرتها، والعظةِ التي قدمتُها، جاء في "القرآن العزيز" من التحذير من الركون إليها، والاغترار بها والاعتماد عليها، ما هو أعرف من أن يذكر، وأشهر من أن يشهر.
وكذلك جاءت الأحاديث النبوية، والآثار الحكمية، فلهذا كان الأَيْقَاظُ من أهلها: العُبّاد، وأعقل الناس فيها: الزهاد.
[أحسن ما قيل في وصف الدنيا]
ولقد أحسن القائل في وصفها:
انظر إلى الأطلال كيف تغيَّرتْ *** من بعدِ ساكنها وكيف تنكرتْ
سحبَ البِلى أذَّياله برسومه *** فتساقطت أحجارها وتكسَّرت
ومضتْ جماعةُ أهلها لسبيلهم *** وتغيَّبتْ أخبارُهم وتنكرت
لما نظرتُ تَفَكُّرًا لديارهم *** سَحَّتْ جفوني عَبْرةً وتحدَّرت
لو كنتُ أعْقِلُ ما أفقتُ من البكا *** حسبي هناكَ ومُقْلتي ما أبصرتْ
نصبتْ لنا الدنيا زخارفَ حُسْنها *** مَكرًا بنا وخديعةً ما فَترَتْ
وهي التي لم تحْلُ قطُّ لذائق *** إلا تغيَّر طعمُها وتمررت
خدَّاعةً بجمالها إنْ أقبلتْ *** فجَّاعة بزوالها إنْ أدبرتْ
وهَّابةً سلاَّبةً لِهباتها *** طلاَّبة لخراب ما قد عمَّرتْ
وإذا بنتْ أمرًا لصاحبِ ثروةٍ *** نصبتْ مجانقَها عليه فدمَّرتْ
وقال آخر:
ومَنْ يَحْمدِ الدُّنيا لعيشٍ يَسُرُّه *** فسوف لَعمري عن قليل يلومُها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرةً *** وإن أقبلت كانت كثيرًا همومُها
No comments:
Post a Comment